الفكرة
بدأت قصة هذه الرحلة من طلب وصلني للتبرع لرحلة خيرية بالدراجات من أمستردام إلى برلين كجزء من فعاليات مؤتمر الفنادق العالمي السنوي IHIF الذي يعقد في برلين. وقتها خطر لي سؤال هو بدلا من دور المتبرع فحسب لما لا أكون مشاركا، وعندما مررت على التفاصيل بسرعة فهمت أن الرحلة طولها٤٠٠ كم في جو بارد نسبيا خلال طبيعة جميلة. طرحت الموضوع مازحا على رئيسي وفوجئت بموافقته واقتراحه اصطحاب عضو آخر من فريق الشركة. أرسلت للمنظمين سائلا إياهم إمكانية الاشتراك وردوا بالإيجاب. أخبرت موظفي الشركة عن الرحلة وطلبت منهم التطوع للمشاركة. فتحمس زميلي يوسف العيد مدير الاستثمار بالشركة والذي هو أيضا من المواظبين على الرياضة. وبالتالي أصبحنا ملتزمين أدبيا أمام المنظمين وأمام موظفي الشركة.المفاجأة
لأستعد أكثر لهذه الرحلة كتبت نبذة عنها في تويتر وطلبت المساعدة من مجموعة “دراجتي” النشطة، فتبرع عدد من الأعضاء للرد كان أسرعهم وأكثرهم حماسا أحمد أل صوفان، والذي اعتاد الترحال بدراجته وكانت من رحلاته قطع المسافة من الأحساء إلى الرياض في يوم واحد. أثناء الحديث مع أحمد تطرقت لطول الرحلة الذي هو ٤٠٠كم وموعدها الذي هو بعد ثلاثة أشهر، ولكن صححني زميلي يوسف والذي كان قد قرأ معلومات الرحلة بعناية أكثر، وقال إن الرحلة في الواقع بالميل وليس كيلو متر أي أنها حوالي ٦٥٠ كم وأنها بعد شهرين وليس ثلاثة! أسقط في يدي وقتها فلقد التزمت أمام الشركة وأمام المنظمين. ومن حديثي مع أحمد وجدت أن هناك الكثير الذي لا أعرفه. فاستخدام الدراجة لدقائق أسبوعيا كما كنت أفعل يختلف تماما عن الركوب لمدة ثمان ساعات يوميا لمدة خمسة أيام متواصلة. فأنا بحاجة لرفع الأداء من ١٢كم إلى ١٠٠كم في اليوم بل وتكرار تلك المسافة يوميا على مدى خمسة أيام. فالجلوس المتواصل على الدراجة بهيئة غير مريحة تحدّ، والتعب العضلي المتواصل تحدّ آخر، وحالة الأجواء والمتوقع أن تكون باردة وممطرة أو حتى مثلجة هي تحدّ إضافي. ثم هناك قرب موعد الرحلة مما يقلل فرص التمرين، والحاجة لحوالي ٤ إلى خمس ساعات لكل جلسة تمرين (لتحاكي التجربة الحقيقية) كل ذلك أثناء فترة مزدحمة بالعمل. وبالنسبة لي كانت المهمة أصعب لتزامنها مع عملي على إنهاء نشر كتابي الأول والذي خطط له أن يطلق في معرض الرياض للكتاب والذي يبدأ الأسبوع التالي للرحلة مباشرة!الاستعداد
بداية أقنعني أحمد بشراء دراجة جديدة ملاءمة لهذا التحدي أتمرن عليها ثم اصطحبها معي، وبدأت المران بمعدل ثلاث مرات أسبوعيا كان يقطعها رحلات العمل ومراجعة مسودات الكتاب. وكان يشارك معي التمرين زميلي يوسف تارة وابن أخي تارة وأتمرن بمفردي. أغلب التمارين كانت في وادي حنيفة الذي يمر وسط مزارع وطبيعة جميلة والذي يمتاز بطوله الذي يصل إلى حوالي ٤٠ كم وإن كانت بعض أجزائه عليها حركة سير عالية. وجربت المران في جامعة الملك سعود والتي فيها طريق دائري طوله ١٠ كم من الممكن تكرار الدوران حوله. وفي مرة قمنا برحلة من مقر الشركة في حي السفارات إلى مخيمات الثمامة على مدى حوالي ستين كم على طرق عامة وأسميناها بالتجربة المجنونة بسبب همجية بعض السائقين على الطرق السريعة والذين كانوا يتعمدون إزعاجنا لا أدري لماذا. في خلال زيارة أحد أصدقائي الإنجليز لي في الرياض ذكر لي أنه قام برحلة مشابهة قبل سنوات، وسألته عن تجربته، وأول سؤال لي كان هل ترغب في تكرارها، ففاجأني بجوابه بالنفي، ولكنه كان سعيدا أن قام بها. كمنت الصعوبة في تجربته في الجلوس للفترات الطويلة والم العضلات. خلال فترة الاستعداد قمنا أيضا بشراء المستلزمات التي سنحتاجها في الرحلة وهي اكسسوارات للدراجة وملابس ثقيلة ومقاومة للمطر أغلبها من مواقع على الإنترنت. آخر تمرين لي مع يوسف في وادي حنيفة وحي المهدية تجاوزنا فيه لأول مرة حاجز السبعين كيلومتر وجربنا بعض المكملات الغذائية التي يستخدمها الدراجين نظرا للجهد الكبير المبذول وعدم توفر الوقت للأكل. وعندما لم يتبق إلا أيام على الرحلة تعاظمت همومنا بنشرة الأحوال الجوية التي توقعت أمطارا وثلوجا. وفي آخر يوم قبل الرحلة قمت بتفكيك الدراجة ووضعها مع اكسسواراتها في حقيبة مخصصة للدراجات. وحملتها معي في رحلتي بالطائرة بعد أن رتبت مع خطوط الطيران.اليوم قبل الرحلة
أمستردام
كان موعد بداية رحلة الدراجة هو الأول من مارس ٢٠١٦. وعندما وصلت إلى أمستردام قبل الرحلة بيوم، أخرجت الدراجة من الحقيبة وركبتها وأخذتها في جولة مع يوسف والذي كان وصل قبلي هناك، وتوقفنا لشراء بعض المستلزمات الإضافية للحماية من المطر. في هولندا استخدام الدراجات منتشر وعددها في المدن كبير بل أن مواقف الدراجات من دورين لاستيعاب عددها. والشوارع مهيئة للدراجات بوجود مسارات مخصصة في اغلب المناطق. وقوانين المرور ايضا تعطي الدراجين أولوية المرور. في ليلة الرحلة كانت هناك في المساء جولة للمشاركين على منزل “آن فرانك” الشهير والذي أصبح متحفا، وبعده عشاء جماعي هو الذي فيه قابلنا كل زملائنا المشاركين في الرحلة لأول مرة، وفيه أيضا كان تعريف بمسار الرحلة من قائدها. كان معنا طاقم مصاحب في سيارتي فان مكون من أربع أشخاص، قائد للرحلة، ومعالج طبيعي، وميكانيكي، ومعد للطعام. كان كل يوم مقسما إلى أربع مراحل طول كل منها حوالي ثلاثين كيلومتر بعدها توقف بسيط لوجبة خفيفة وتعبئة مياه. وكانت مناطق التوقف والراحة في العراء. وكان الأكل مكونا في غالبه من فواكه وبسكويت وشاي وقهوة وفي وقفة الغداء يضاف لها ساندويتشات خفيفة. حسب حسابتنا فإن استهلاكنا للسعرات الحرارية متوسطه ٢٠٠٠ سعرة إضافية مما يتطلب منا تناول ما بين ٣ إلى ٤ ألاف سعرة حرارية يوميا فقط للوصول لمرحلة توازن والتمكن من قطع المسافة دون إغماء. في رحلتنا هذه خططنا مسارنا بحيث نبتعد ما أمكن عن الطرق السريعة ونستخدم الطرق الريفية والطرق المخصصة للدراجات وهي منتشرة في هولندا وألمانيا. وهي في كثير من الحيان تمر تعبر محميات طبيعية وتمشي بمحاذاة الأنهار والقنوات والمائية. هذه الطرق من الصعب معرفتها بمجرد النظر إلى خريطة أو استخدام برامج الملاحة مثل غوغل أو غارمن. ومتابعتها أيضا أمر صعب فلذلك قبل الرحلة قام المنظم برسم الخارطة بناء على مصادر متعددة للمعلومات وحمّل الخارطة على جهاز ملاحة مركب على كل دراجة. ولكن مع ذلك كان من الصعب متابعة الخارطة لأن بعض الطرق طينة أو رملية ومتشابهة ومن الصعب تحديد أي منها المقصود في الخارطة الملاحية، وأيضا من الصعب المشي على تلك الطرق الوعرة بدرّاجة الطرق مقابل الدرّاجة الجبلية التي تمشي بسلالة في الطرق الوعرة ولكنها بطيئة على الطرق المعبدة.اليوم الاول
من أمستردام إلى بيلفيدت
في اليوم الأول لرحلة الدراجات، قمنا من النوم السابعة صباحا وأغلقنا حقائبنا وحمّلناها في السيارة المصاحبة. أفطرنا في الفندق وعبأنا قوارير المياه ثم انطلقنا من الفندق الى المتحف الذي هو نقطة البداية. وأخذنا صورا تذكارية فيهما. ابتدأت رحلة الدراجات من قلب أمستردام من المتحف في طريق موازية لنهر أمستل، وبعد الخروج من المدينة تغيرت المناظر عند المرور بالمناطق الريفية إلى مناظر خلابة في طريق تمشي موازية للنهر على ضفافه حقول خضراء وهناك أيضا الطواحين الخشبية الكبيرة التي تشتهر بها هولندا في المزارع. في الطريق تعرضنا للضياع عدة مرات لتشابه الطرق الريفية التي كنّا عليها، وكان الجو غائما ولكن جافا وكانت المجموعة جديدة على بعضها البعض فكنا في طور تعارف. كانت مسافة اليوم الأول قصيرة هي حوالي ٥٠كم بالدراجة انتهت في مدينة تترخت الهولندية تتبعها مسافة قطعناها بالقطار لمدينة بيلفيدت الحدودية الألمانية. وفسر لنا المنظمين استخدام القطار لحرصهم على إكمال الرحلة في خمسة أيام قبل بداية المؤتمر. وبالتالي أصبحت مسافة الرحلة التي قطعناها بالدراجات حوالي ٥٠٠كم. قبل نهاية أول يوم ومع أن المسافة كانت قصيرة نسبيا أحسست بألم شديد في الركبتين وخصوصا في اليسرى فبعد أن نزلت من الدراجة وجدت صعوبة بالغة في المشي وصعود الدرج. ومع شدة الألم فإن أكثر ما كنت أخافه هو ألا أستطيع أن أكمل الرحلة من الألم. فذهبت لأخصائي العلاج الطبيعي المصاحب لنا. وبعدما فحصها فحصها دقيقا من رفع وخفض وثني لكل المفاصل وشد للعضلات توقع أن السبب قد يكون شد في الأربطة بسبب إجهاد العضلات، ولكن الجيد في الأمر حسب قوله إنه من الممكن أن تتحسن بتمارين الاستطالة، ووضع الثلج على مكان الألم، بالإضافة لمسكّن للألم. فأصبحت أبدأ يوميا بتمارين الاستطالة وأنهي بها مشوار الدراجة اليومي، وأيضا قبل النوم. بتنا تلك الليلة في مدينة بيلفيلد الألمانية الحدودية في فندق بارك إن وهو على تلة تطل على المدينة.اليوم الثاني
من بيلفيدت إلى هيلمسهايم
اليوم الثاني كان أصعب كثيرا بعد أن كان اليوم الأول سهلا ولكنه كان تسخين جميل، كان موعد المغادرة يوميا الساعة الثامنة صباحا نقوم قبلها للإفطار والاستعداد واللبس ثم فحص الدراجات والركوب. الخبر الجيد لي أن ألم الركبة أصبح أخف. كان الجو في أول اليوم غائما ولكن جافا. عند انطلاقنا من الفندق كنت آخر المجموعة حيث كنت انشغلت بتشغيل كاميرا الفيديو (غوبرو)، وأصبحت إشارة المرور حمراء عند تحويلة للطريق وتخلفت عن الفريق إثرها ووجدت أن جهاز الملاحة (غارمن) الخاص بي كان لا يعمل أيضا، حاولت الإسراع فلمحت آخر المجموعة وأنا آمل ألا يكونوا قد انعطفوا إلى شارع آخر دون أن أدري. ولحقت بهم بعد صعوبة بعد أن تعرضت للضياع عنهم في أول الرحلة. قطعنا مسافة حوالي ٣٠كم إلى مكان توقف الراحة في شارع ترابي ضيق يمر أمام كنسية. سألت بسذاجة عن موقع دورة المياه وعلمت أنها في الخلاء. مع انطلاقنا مجددا بدأ المطر الخفيف بالهطول، ثم ازدادت شدة المطر إلى أن أصبح عواصف محملة بالبرد والهواء الشديد لمسافة ٣٠ كيلومتر إلى مكان توقفنا للغداء حيث فرحنا بوصلنا للسيارات المصاحبة فتركنا الدراجات تحت المطر المنهمر واسترحنا وأكلنا داخل السيارات اتقاء للمطر إلى أن خفت حدته. مسافة هذا اليوم كانت ١٢٤ كيلومتر في مرتفعات إجمالي ارتفاعها١٠٠٠ متر. وصلت فيها سرعة نبضي إلى أقصاها لمدد طويلة. كان صعود المرتفعات صعبا جدا تفقد فيه النفس وما ان تعدي مرتفعا إلا يواجهك مرتفع اخر، وفي أعلى المرتفع الأخير انتظرنا زملاء الرحلة حيث صعد بعضهم مشيا لصعوبة التسلق. انقسم الفريق بشكل تلقائي إلى مجموعتين: مجموعة سريعة مكونة ممن لديهم دراجات طرق وكانوا من الدرّاجين المنتظمين وكان المذهل أن بعضهم جاوز الستين من عمره، وتكونت المجموعة الثانية من الباقيين. وأسعدني أنني استطعت أن انضم للمجموعة السريعة وأن أكون أول من فيها لمرات إلا في المرتفعات حيث كنت بطيئا نسبيا. وصلنا الفندق ايبس ستايلز في قرية هيلمسهايم الساعة الرابعة والنصف عصرا بعد أن انطلقنا حوالي الثامنة صباحا. وصلت مصابا بالإعياء واستمر معي الدوار إلى وقت النوم. استغرب موظف الاستقبال هشام في الفندق هو من أصول مغربية من هيئتنا ومن الطين العالق بملابسنا. وكان علينا غسل ملابسنا ومعداتنا من الوحل والمطر. كنّا كل ليلة عند وصولنا نغسل ملابسنا وتغسل قوارير الماء تمهيدا لاستخدامها في اليوم التالي. وتصبح المهمة أصعب عندما يعلق بها الوحل في الأيام الممطرة. هناك طريقة ذكية لغسل الملابس في غرفة الفندق للاستخدام في الصباح التالي، وهي استخدام الشامبو لغسل الملابس ثم عصرها ومن ثم لفها في منشفة استحمام جافة وعصرها مجددا ثم المشي عليها بالأقدام لعصرها بقوة. واستغربت وفرحت عندما وجدت الملابس جافة في الصباح، وَمِمَّا يساعد وضع الملابس على المدفئة في الغرفة. اكتشفت أن أصعب مراحل الرحلة هي التي يجتمع فيها المطر والريح المعاكسة والبرد وهي التي تفقد فيها الإحساس بأصابعك من شدة الألم. وهذا ما واجهناه في ثاني أيام الرحلة. وتعلمت طريقة فعالة للتعامل مع الريح المعاكسة وهي أن يسير الدرّاجون في مسار واحد خلف بعضهم البعض بحيث يحمي الأول بجسده الآخرين من الريح ويسهل عليهم التدريج ولألا يحسّ الراكب الأول بالتعب يتناوب الدرّاجون في التدريج في مقدمة الركب.اليوم الثالث
من هيلمسهايم إلى هيديفيلدت
هذا اليوم كان أقصر مسافة حيث قطعنا ٩٠ كيلو فقط في جو بارد وغائم جزئيا ولكنه غير ممطر. كان الانطلاق الساعة الثامنة والربع صباحا. تعرضت فيه المجموعة السريعة للضياع ومن الجيد أنني لم أكن معهم هذه المرة. حيث وصلنا مكان الغداء وانتظرناهم لمدة نصف ساعة فلقد فاتهم الانعطاف عند طريق ترابية تتفرع من الطريق العام. كان ممن أبرز ما مر علينا في هذا اليوم المشي مسافات طويلة في طرق وعرة حيث كانت أجزاء كبيرة من الطريق موحلة وطينية. وهنا كان للدراجات الهجينة والجبلية ميزة في سهولة السير مقارنة بدرّاجات الطرق. ووصلنا الفندق حوالي الثانية ظهرا في قرية هيديفيلدت، ونزلنا في مبنى قديم تم تحويله إلى فندق في القرية وهي قرية ألمانية تقليدية لا تخرج عن التخطيط السائد وهو يتميز بشارع رئيسي للمشاة للقرية تصطف حوله الحوانيت والمطاعم والمقاهي وينتهي بساحة حول الكنيسة. كان الجوع بلغ منا مبلغه فبعد وصولنا وغسل ملابسنا خرجنا لنتمشى في القرية على أرجلنا وصادفنا مطعم تركي أكلنا عنده دونار أي شاورما تركية والتي قد لا تخلو منها أي قرية في ألمانية ولكن بسبب الجوع كانت عندنا ألذ واحدة.اليوم الرابع
من هيديفيلدت إلى جنتن
كان اليوم الرابع من أطول الأيام وهو يوم تميز أيضا بالسير خارج طرق السيارات المعبدة. كان الجو صحوا ولكنه باردا وريحه نشطة. سرنا مسافات طويلة على طرق بمحاذاة النهر بعد ان تعرضنا للضياع مرات عدة داخل القرى بسبب عدم دقة الخرائط وتغير المسارات على الواقع وإغلاق بعض الجسور على الأنهار والقنوات. حيث اضطررنا للبحث عن طرق بديلة وسلوكها. وكم كانت خيبة أملنا عند نصل إلى مفترق طرق نبتغي سلوكه فنجد أن الطريق مغلقة فنضطر إلى الرجوع أدراجنا لكيلومترات للبحث عن طريق بديلة. أذكر أننا لففنا إحدى القرى ورجعنا لنفس محطة القطار ونحن نظن أننا في الطريق لخارجها. كان الطريق جميلا لسيره بمحاذاة قناة مائية طويلة عرضها يقدر بعشرين مترا ومشينا على ضفافها مالا يقل عن أربعين كيلومترا، في هذه القنوات تبحر بواخر من نوع فريد مخصصة للشحن طويلة نحيفة تجد فيها بيتا للطاقم وأيضا قد تحمل سيارة على متن الباخرة تستخدم عند الوصول للمرفأ. المذهل هو أنك تجد قناة مثل هذه معلقة على شكل جسر تمشي تحتها قناة أخرى ولا تتقاطع معها بحيث من الممكن أن تعدي باخرتين في نفس الوقت في اتجاهين متعامدين دون أن تقاطع. ولكن بالنسبة للدراجات فإن الطريق المخصصة لها غير معبدة بشكل جيد مما جعل الرحلة غير مريحة بل وواجهنا ثقب إطارات لدراجتين من المجموعة. ولحسن الحظ كان معي منفاخ متنقل أستخدمنا لنفخ الإطارات مؤقتا إلى أن وصلنا إلى مكان الراحة حيث تم إصلاحهما من قبل الميكانيكي المصاحب لنا. الاهتزازات المتكررة من مطبات الطريق تسبب الصداع من جهة وتسبب إجهادا في المفاصل والعضلات من جهة اخرى، وهي تجهد أكثر من الطرق المعبدة وتحسسك أنك قطعت مسافة أطول من الواقع. وبعد يوم طويل متعب ومسافة حوالي مئة كيلومتر من بدايته، وبعد أن تبقى كيلومتر واحد حسب الخريطة على الفندق وجدنا أنفسنا أمام أعمال طرق عند مدخل القرية في مكان جسر يعدي فوق نهر. ظننا الطريق قد لا تكون معبدة أو أنه عليها إصلاحات بسيطة ولكن عندما وقفنا عليها وجدنا أن الجسر مفكوك! فهناك نهر عرضه حوالي خمسة أمتار أمامنا وليس هناك طريقة لتجاوزه. تداولنا الرأي عما يمكن عمله وكانت إحدى الخيارات أن نعود أدراجنا ونلتف حول النهر إلى الجسر الآخر ولكن حسب الخارطة فإن المسافة تقدر بحوالي عشرين كيلومتر مما يعني ساعة إضافة آخر النهار على الأقل. وكان هناك خيار آخر هو أن نركب السيارات المصاحبة لنلتف حول النهر ولكن السيارة بعيدة ولا تستطيع استيعاب العدد الكامل للفريق. وأسقط في أيدينا، وأثناء تفكيرنا وجدنا صاحبنا الهولندي يشمر عن ساقيه ويحمل دراجته ويخوض النهر، وكان ذلك هو الحل. فبدأنا بخلع أحذيتنا وتشمير البنطال وخوض النهر البارد بحيث وصل مستوى الماء إلى منتصف الفخذ. ولأن الفندق قريب من النهر فأكملنا المسافة للفندق راكبين ولكن مشمرين وحافين في عز البرد مما أصاب أهل القرية الذين مررنا بهم بالدهشة. وكان هناك فردان من الفريق فضلوا الرجوع بالسيارة. كان الفندق صغيرا ومتهالكا وسيء الرائحة ولم يبدو أن عدد زوار قرية جنتن كبير قياس بحجم ومستوى الفندق. وبعدما غسلنا ملابسنا بفترة طويلة وصل أعضاء الفريق الذي أتوا بالسيارة والذين تأخروا لأن الشرطة أوقفتهم. بسبب زيادة عدد الركاب عن استيعابها. كانت موظفة الفندق التي استقبلتنا هي نفسها التي تعمل في المطعم وفي الغرف. ومن صغر القرية لم نجد خيارات مناسبة لمطعم للعشاء للمجموعة. وبعد أن درنا بشوارع القرية الأربعة وجدنا فيها مطعما يونانيا طردنا صاحبه لأنه ممتلئ فرجعنا للعشاء بالفندق، فلم يكن حسن التعامل مع الزوار من ثقافتهم كما يبدو.اليوم الخامس
من جنتن إلى برلين
في صبيحة اليوم الخامس والأخير، بدأنا يومنا كالعادة بالإفطار بالفندق ثم تفقد الدراجات وتمارين الاستطالة والشد، فوجئنا بوجود مجموعة كبيرة نسبيا من السياح الصينيين لدى مكتب الاستقبال في الفندق، وتضاحكنا عمّن من يا ترى خدعهم باقتراح زيارة هذه القرية المملة والتي تبدو كأنها مازالت من أيام ألمانيا الشرقية قبل الوحدة. كانت الطبيعة خلابة خارج القرية وتمتاز بالبحيرات والحقول، وكان هناك طريق مخصصة للدراجات وكان أهالي القرية التي مررنا بهم وأغلبهم من المسنين أو الأطفال بشوشين وودودين معنا بل حتى عمال صيانة الطرق كانوا يشجعون من يمر بهم من الدراجين. كانت الروح المعنوية عالية في آخر يوم لقرب الوصول إلى النهاية. ولكن كان هذا اليوم هو الأبرد مع أنه صحو، وذلك مع أن درجة الحرارة لم تكن أبرد من الأيام السابقة بكثير وقد يكون السبب كونه اليوم الخامس بعد أيام من البرد تحملنا حتى فاق احتمالنا أو أن البرد كان أكثر رطوبة لقربه من البحيرات. مررنا هذا اليوم ببحيرات عديدة حولها ممرات للمشاة والدراجات وكان مكان توقفنا للغداء على ضفاف بحيرة جميلة. كانت الأرض بصفة عامة منبسطة دون مرتفعات إلا آخر الطريق. في آخر الطريق مررنا بمدينة بوتسدام التاريخية الشهيرة التي تتميز بقصورها العريقة الجميلة والتي مررنا بشوارعها مرور الكرام بسبب استعجالنا للوصول لوجهتنا.الوصول
كان الطريق إلى برلين من جهة بوتسدام يمر بمرتفع عال، وكان آخر التعب، ولكنه جميل ويمر من خلال منتزه وطني مزدحم لأنه يوم العطلة الأسبوعية. يتميز مدخل برلين بوجود طرق للدراجات من مدخل المدينة إلى مركزها. يمر طريق الدخول بمركز المعارض الشهير الذي يقام به معرض برلين للسفر السنوي الأكبر على مستوى العالم. وكانت طول رحلة هذا اليوم ١١٠ كيلومتر. وعند دخول برلين مررنا بالدوّار الذي عليه نصب الحرية التذكاري مكملين إلى بوّابة براندنبرغ والذي تنتهي عندها الرحلة. اختلطت لدينا المشاعر عند رؤيتنا للبوابة، فمن جهة سعادة كبرى للإنجاز والوصول بعد أيام من التعب ومن جهة فخر بالإنجاز ومن جهة حزن على نهاية المطاف. أخذنا الصور التذكارية عند البوابة الشهيرة. بعد الصور انطلقنا إلى فندق استضاف المجموعة وبدأنا في الاستعداد للعودة. إذ قمت بجمع أغراض الدراجة والرحلة من ملابس رياضية ثقيلة وثم تفكيك الدراجة وتوضيبها داخل حقيبتها الخاصة وكل ذلك في الرصيف أمام باب الفندق! وكانت تلك آخر خطوات الرحلة.مشاعر مختلطة
قبل الرحلة غلب على مشاعري التخوف والتوجس إدراكا لصعوبة المهمة، مما جعلني أحرص على التدرب على رحلات طويلة مثل رحلة الثمامة، وكانت الأيام التي تمر دون تدريب أحس فيها بتأنيب ضمير. فكنت أصحو مبكرا في أيام العطل الأسبوعية وأقوم برحلة بالدارجة لمدة أربع ساعات إلى الظهر. في أول الرحلة كانت المشاعر مزيجا من الحماس والترقب تحولت بالنسبة لي إلى خوف من أن يمنعني ألم الركبة من كمال الرحلة. من المفاجآت الجميلة أن زملاء الرحلة سرعان ما أصبحوا فريقا متعاونا ومتجانسا وهذه من محاسن الرحلات والمغامرات التي تبنى فيها العلاقات الوثيقة بسبب المعاناة المشتركة للوصول لهدف واحد.العدة والاستعداد
كنت مهتما بالقراءة عن الاستعداد البدني لرحلات الدراجات الطويلة (والتي لم أجد كثيرا عنه باللغة العربية) وعن مكونات الدارجة التي سأحتاجها ومن أهمها مقعد مريح للدراجة (وهو لا يعني أن يكون وثيرا أو مبطنا) بل أنه يناسب شكل جسمك، ولهذا قصة حيث مع أنني قرأت كثيرا عن الموضوع لم أستطع أن أجد المقعد المناسب خصوصا وأن الذي جاء على الدراجة كان مؤلمًا جدا. ولكن في أحد زياراتي لدبي عرض على المحل أن أشتري مقعدا غاليا على أن يضمنون إرجاعه في أي وقت إن لم يناسبني، وكانت تلك الخدمة ما حفزني للشراء ووجدت أن المقعد مناسب. اقتنيت عبر الإنترنت مستلزمات التدريج في البرد والمطر وهو يتكوّن من قفازات وجاكيت وبنطال مخصص للدراجات مبطن في مكان الجلوس والذي يجب أن يكون خفيف الوزن مانعا للماء ولكن أيضا دافئا. وأيضا طاقية ودافئة ومضادة للبلل تلبس تحت الخوذة ونظارة تحمي العينين. وبناء على النصائح قمت بتركيب عدّة للقياس تتضمن شريطا يربط على الصدر لقياس دقات القلب وأيضا حساس على الدراجة يقيس عدد الدورات في الدقيقة والسرعة مع ساعة أو جهاز ملاحة يسجل القراءات ومسار الرحلة وطولها ويعرضها. وإنارة خلفية حمراء تجعل الدراجة أوضح للسيارات في المطر والضباب. وركبّت على الدراجة حقيبة صغيرة لمستلزمات الرحلة مثل الأكل والجوال يسهل الوصول إليها وكانت ضد المطر. ولنقل الدراجة من الرياض إلى أمستردام والعودة استعرت من صديق عزيز حقيبة دراجات احترافية. كان وزن الدراجة المصنوعة من الألياف الكربونية ٧ كيلوغرام ولكن مع المستلزمات وحقيبة الدراجة كان الوزن الإجمالي ٣١ كيلو. وقبل رحلة الذهاب أخبرت خطوط الطيران عن حملي لحقيبة دراجة كبيرة وأخذتها معي في العفش ووصلت معي دون إشكال. ولكن تطلب ترتيب سيارة للاستقبال تسع الحقيبة الكبيرة. لدينا شُح في محلات مستلزمات الدراجات وقد يكون ذلك لحداثة عهدنا بهذه الرياضة، ففي دبي محلات عديدة لديها مستلزمات متنوعة واحترافية. ويضطر من هو هنا الشراء من دبي أو الطلب من مواقع البيع عبر الإنترنت. والجيد في محلات دبي كما جربت حسن خدمة العملاء من نصح وأيضا تقبل للترجيع دون أسئلة عند عدم ملائمة السلعة.إكمالي لهذه الرحلة أفرز لدي شعورا لا يوصف بالإنجاز والفخر، وأثبت لي مرة أخرى أن المهام الصعبة وما يظهر كمستحيل من الممكن إنجازه بأمور أربع: الاستعداد، والعزيمة وعدم الاستسلام، وتجزئة المهام الكبيرة إلى أجزاء سهلة، ثم الاستعانة بالله، واستمداد القوة من دعم الفريق من العائلة ومن مكان العمل ومن المجتمع ممثلا بمجموعة دراجتي.
وأخيرا إذا لم تجد الجسر كن أنت الجسر.
الحمدلله على سلامتك يا بدر، ورحلة مجنونة وومتعة جداً جداً ..
دائماً أثناء عبوري بالسيارة في طرق ألمانيا وهولندا أشاهد الدراجين وأتمنى أن أكون مكانهم؛ وتحربتك هذه جعلتني أرى أن هذه الأمنية ليست بصعبة وليست بمستحيلة ..
رحلتك كانت في وقت شتوي بارد جداً، ومع ذلك قمت بإنجازها بتفوق مع أنك ابن الصحراء، وهذا يدل على أن التمرين والتقوية قبل فعل شيء جديد أو خارج عن المألوف يجعلك تقوم به بشكل سهل إلى حد ما..
أنا سعيد للغاية بقراءة تدوينتك هذه، وفي نفس الوقت أشكرك جداً لإنك تثري المحتوى العربي الضعيف بهكذا معلومات مهمة..
والنقاط الأربع التي تذكرتها: ( الاستعداد، والعزيمة وعدم الاستسلام، وتجزئة المهام الكبيرة إلى أجزاء سهلة ) ستكون في ذهني قبل أي عمل أعتقد أنه صعب..
شكراً بدر مرة أخرى ..
شكرًا محمد على تعليقك اللطيف حدا جدا.
واسعد ان اسمع عن قيامك بمغامرة مثل هذه.
اذا كانت النفوس كبارا”
تعبت في مرادها الأجسام .
تجربة رائعة و مثيرة دكتور بدر.
اتطلع ان أقوم برحلة مماثلة مع الاستفادة من تجارب الآخرين .
لكن حتما” ليس في بلادي .
شكرًا لتعليقك وتشجيعك.
وأنا بدوري أشجعك على المبادرة برحلة صعبة.
أنا أتمنى تكرار التجربة محليا.
أقصى ما وصلت هو 36 كم في اليوم بالدراجة ، ما قمت به شيء جبار ..
Pingback: مقالات تستحق القراءة
شكرا لك على إطرائكم.
ماشاء الله يا ابوعبدالعزيز… لك الحق ان تفتخر بهذا الإنجاز ونحن كذلك فخورين بك. وشكراً على هذا السرد الجميل والبليغ. وفقك الله دائماً وأبدا.
شكرًا عبدالرحيم على هذا الإطراء. وسرني تعليقك.
نحن فخورين بك وبإنجازك أخ بدر وانت نموذج مميز للارادة والاصرار وندعوك لخوض تجربة قادمة صيف 2017 قطع مسافة 1200k
المانيا_بلجيكا_فرنسا هذه المهمه من إختصاصك الان وستكون قائد مجموعة هاربة 🏅