هل جربت السير في طريقٍ ضبابي تنعدم فيه الرؤية؟ أو طريقٍ مظلم انقطعت عنه الكهرباء؟
في مثل هذه المواقف تكون ردة فعلنا المباشرة الإبطاء من سرعتنا تحسبًا لظهور أي شيء مفاجيء، وتوجيه معظم تركيزنا لإيجاد الاتجاه الصحيح حتى نعبر المنطقة بأمان. قد يكون الطريق محاطًا بمناطق جميلةً تستحق قضاء بعض الوقت فيها، ولكن انخفاض مستوى الرؤية أخفى عن أعيننا كل معالمها.
العمل في الإدارات الغامضة يشبه السير في أحد هذين الطريقين. فالشخص يرى مسافة خطوات بسيطة أمامه ولا يعرف ما هو القادم ولا إلى أين يتجه.
يخلق الغموض تحدياتٍ كبيرة وبيئةٍ غير مريحة تربك الأشخاص وتؤثر على إنتاجيتهم. ففريق العمل يقف حائرًا أمام خيارين. إما أن يكون حذرًا في خطواته ويتقدم ببطء حتى يضمن النجاة، أو أن يقرر المغامرة ويمشي بخطواتٍ سريعة قد تضطره للاصطدام بمفاجآت الطريق.
هل نستطيع إزاحة الغموض نهائيًا؟
لمعرفة الإجابة لابد من التفريق بين نوعين من الغموض:
غموض خارجي: وهو ما يرتبط بالظروف المستقبلية غير المضمونة الخارجة عن سيطرتنا، ولا يمكننا طرده نهائيًا من حياة المنشأة خاصةً أن بيئات العمل تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. وهو غموض إيجابي لأنه يحفز فضولنا، ومرونتنا في مواجهة المفاجآت، وقدرتنا على الابتكار. فحتى كبريات الدول والاقتصادات ليست بمعزل عن هذا النوع من الغموض. نتذكر جميعًا كيف سجل عدم اليقين أعلى مستوياته قبل عامين بحسب مؤشر عدم اليقين العالمي وكيف احتاج العالم لمرونة عالية وحلول مبتكرة لمواجهة الجائحة.
غموض داخلي: وهو ما سنركز في هذا المقال على أهمية إزاحته. ويعني انعدام الشفافية في بيئة العمل الداخلية، وتشوّش الأهداف بسبب نقص المعلومات وقلة التواصل. تراكم هذا النوع من الغموض يعطل نجاحنا ويعيق استعدادنا لمواجهة الغموض الخارجي ويحرمنا من اقتناص الفرص.
هل تعاني من أعراض الغموض الداخلي؟
من المهم أن نبدأ بهذا السؤال لنتحقق من وجود مسببات الغموض في الإدارات ومن أهمها:
غياب الرؤية أو عدم وضوحها
من واقع قيادتي للعديد من المشاريع صادفت بعض المنشآت التي تعمل بدون رؤية واضحة وكنت أرى تأثير ذلك بوضوح على جودة أعمالها. ولو كان هناك نصيحة واحدة أريد تقديمها فهي: لا تعتمد على الحلول المؤقتة لمشاكلك الغامضة، وابدأ بتحديد رؤيةٍ واضحة المعالم.
غياب الرؤية المستقبلية أو عدم وضوحها يعود لأسباب عديدة من ضمنها: عدم وضوح الوجهة، أو عدم مشاركة الرؤية وشرحها بشكلٍ كافٍ لترسخ في أذهان الفريق، أو عدم ربطها بمهام الموظفين اليومية، أو عدم تجسيد الرؤية من خلال السلوك القيادي.
من الأمور التي أحرص على تذكير فريق عملي بها أن الرؤية ليست مجموعة كلماتٍ رنانة تكتب على الجدران والورق لتترك أثرًا مؤقتًا في أنفسنا. ولكنها سلوكًا نجسده ونهجًا نسلكه كل يوم. وبعد تحديد رؤيتك قد تحتاج إلى إجراء استطلاعات رأي بين موظفيك لقياس مدى فهمهم للرؤية، والتعرف على التحديات التي يواجهونها في محاولتهم لتطبيقها
عدم وضوح المهام والمسؤوليات
لا نتحدث هنا عن الشركات الناشئة والمشاريع الريادية ذات الفرق الصغيرة التي يُعد عدم التقيد بالأدوار فيها من أهم أسباب استمراريتها، ولكننا نتحدث عن المنشآت الكبيرة المستدامة التي تتبنى الغموض ولا توزع الأدوار بشكل واضح مما يخلق لأعضاء الفريق صعوبة في فهم أدوارهم ويعطل الإنجاز وروح الابتكار.
وهنا نتطرق لثلاثة مفاهيم رئيسية:
- غموض الأدوار: ويعني عدم دراية الموظف بمسؤولياته، ومهامه، وأولوياته وما يتوقع منه.
- تضارب الأدوار: عندما يتم إعطاء الموظف أدوارًا متعددة وغير متوافقة في نفس الوقت، أو عندما يتداخل دوره مع موظف آخر أو مجموعة عمل أخرى.
- تعارض الأدوار مع القيم: عندما يُطلب من الموظف أداء دور يتعارض مع قيمه الشخصية أو متطلبات وظيفته.
عادةً ما يفترض القادة أن الموظفين يعرفون أدوارهم ومسؤولياتهم، لكنهم لا يأخذون في الاعتبار نمو فرق العمل، والتغييرات الجديدة، والتحيزات الشخصية، لذا يمكننا معالجة هذه المشكلة من خلال بعض الخطوات مثل:
- إجراء حوارات شفافة حول تحديد الأولويات
- التأكد من أن الموظفين لديهم دور أو وصف وظيفي واضح ومحدث.
- تطوير خطة عمل تحدد بوضوح أهداف المهام والمخرجات المتوقعة.
- تجنب إسناد أدوار تتعارض مع احتياجات الموظفين وقيمهم الشخصية.
التواصل المبهم
شح التواصل، وعدم توفر معلومات كافية أو إجراء محادثات غامضة، يترك الموظف في دوامة من التساؤلات والتفسيرات والاحتمالات مما يعرقل الإنتاجية. يمكن أن ينعكس تحسين التواصل الداخلي على مناطق كثيرة من العمل. ومع أن التواصل إحدى اهم البديهيات المسلم بها في عالم الأعمال. إلى أنه بحسب IABC 60٪ من الشركات لا تملك استراتيجيات طويلة المدى لتواصلها الداخلي. وفي دراسة أخرى أجرتها Gallup 85٪ من الموظفين لا يتم إشراكهم أو يتم إقصاؤهم بشكل واضح. لذلك إن كنت جادًا في إزاحة الغموض من منشأتك لابد من العمل على تنفيذ استراتيجية تواصل داخلي أكثر قوة وفاعلية. بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك، فمن مصلحة عملك وعلاقاتك دائمًا أن تكون واضحًا. فالتواصل الشفاف يقلل الإحباط الناجم عن سوء الفهم، ويعزز التفكير المنظم. كما يشجع على تفهم مواقف الآخرين، وإدارة العلاقات بشكل أكثر فعالية.
إن كنت تلاحظ وجود أحد هذه الأعراض أو جميعها فإن منشأتك تعاني من الغموض بما يستدعي التدخل السريع. ويكون ذلك بأن تقرر أن تنتهج الوضوح، ولا تقبل التنازل عنه. سواءً كان ذلك في رؤيتك، ومحادثاتك، وأدوار فريقك، وكل ما يتعلق بعملك.
فوضوحك كقائد سيخلق تناغمًا بينك وبين فريقك. بما ينعكس إيجابًا على أداء المنشأة ورسائلها للمتلقين، وسيبني ثقة متينة بينك وبين كل من يتعامل معك.
ممتاز.. مقال اكاديمي مفصل بشرح ممتاز.. ما اخفيك بصراحة كنت أعاني من هذا الأمر وأحس أن الموظف المفروض يلقطها تلقائيا لكن اكتشفت انه من الادارة الحكيمة القوية هو أن يكون كل شيء واضح تماما حتى لو بدا بشكل سخيف..
اكثر كلمة تجر لهذا الغموض هي قاعدة: common things ..
عشان كذا صرت اتبع rubber ducking law
https://images.app.goo.gl/YwSx2jt8qQZ9ZjiD9
دكتور بدر شكرا على المقال الرائع
الرجاء التعليق على التالي لنستفيد خبراتك
١- كيف نفصل مابين الغموض في العمل وتحمل المسؤوليات الناتج عنه!
٢-الاحتياج للعمل ( الراتب والترقيات) يجعل الموظف لايمتلك القدره في كثير من الاشياء مثلا توضيح الغموض، عدم التنازل، الخ
٣- كيف نعرف مدى تأثير المقالات والنصائح والاجتماعات والكتب التي تأتي من القاده على الموظف وفي سوق العمل السعودي ( لايوجد مؤشر KPI)
واخيرا
اريد ان انضم الى مسك لانه يوجد لدي الكثير لمشاركته امام الجميع
اخوك
نهار
يقول الله تعالى “أفمن يمشي مكباً على وجه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ” ،،
أن وضوح رؤية الهدف دكتورنا Badr Al Badr كما ذكرت في مستهل مقالك ، هو الاساس والمحرك لكل لاحق بعدها من العمل والممارسة إلى أن تنقلها من مجرد عبارة مكتوبة إلى واقع ملموس،،
ومن أجمل تعاريف الرؤية بالنسبة لي ما ذكره ستيفن كوفي في كتابه العادة الثامنة أنها صورة ترى مرتين مرة في الخيال وأخرى في الواقع
لخصت الاية الكريمة التخطيط بشكل عام والتخطيط الشخصي في عبارات بسيطة،،
لو أفردنا كل كلمة لوسعتها محاضرة كاملة ،، لذا سنذكرها فقط،،
١- أهمية الرؤية وتتمثل في وجوب رفع الرأس أي أمكانية الرؤية بوضوح كبير.
٢- العمل والحركة ولكن بشكل منضبط فلم يقول الله تعالى يجري أو يركض لان الاهم الوصول وليس توقيت الوصول.
٣- تعريف المستقيم وهو أقصر مسافة بين نقطتين لها بداية ولها نهاية وتمثل خطة العمل المثلى لتحقيق الهدف.
أما التجارب ،، فثقافة الرؤية تحتاج حقيقة إلى جهد كبير من الجميع ، فللأسف ينظر لها وللتخطيط بشكل عام بأنها مجرد فلسفة وتنظير،،
فكيف بباقي الادوات من وصف وظيفي وحوكمة وإدارة للمخاطر ، نحتاج وعي بأهمية التخطيط قبل أي شيئ،،
مع أن الجميع في يومنا الحاضر لا يتحرك بسيارته إلى عن طريق قوقل ماب 😊
اعتذر على الاطالة وجزاك الله خير على اتاحة فرصة الرد على المنشور ، اسال الله تعالى أن يجعلك مباركاً دائما وأبدا 🌹🤲🏼🌹
تعليقك ينم عن فهم وتحليل م سيف. شكرا لمشاركتك.
مقال جميل..
الغموض يُعد نتيجة لها آثار سلبية بالغة على المنظمة وفاعليتها، ومن المهم جداً البحث في مصدره الحقيقي، لأن الغالب العام أن المشكلة ليست بسبب التواصل وإلا لكان الحل بسيط جداً. تعقيد المشكلة يكمن في صحة ودقة الإطار المرجعي والذي يُمثّل الخارطة، فمتى كان في بناءه ناتجاً عن وعي بغاية المنظمة وهدفها الوجودي؛ فإن فهمه وإيصاله يكون يسيراً على القادة، وفي هذه الحالة يمكن أن نتوقع قدرة الموظف على التعبير بكل دقة عن المنظمة وأهدافها من جهة، ونقاش أو اتخاذ أي قرار بثقة كبيرة دون الرجوع لأحد.
والسؤال: كيف نصل لإطار مرجعي صحيح ودقيق؟
تحيتي وتقديري أ. بدر
شكرا لمرورك اخي محمد. تحليل وأسئلة عميقة. قد تكون البداية من كون ثقافة المؤسسة تمتاز بالشفافية.
تحية طيبة دكتور بدر
في البداية شكرا لطرحك الجميل و الواضح ومواضيعك القيمة و الثرية بالخبرة و العلم.
اما بعد فاني أؤيد ما ذكره م. سيف من اهمية وضوح الروية والتخطيط و متابعة التنفيذ و اضيف معه :
انه دائما ما تتبع المنشاة سلوك قائدها سواء كان على مستوى مجلس الادارة او على مستوى الرئيس التنفيذي.
فالغموض بالمسؤولية يتبعه غموض في الصلاحية و من ثم غموض باهداف النتائج المحققة.
و ان الغموض في حد ذاته اما ان يكون وسيلة لقائد لا يستطيع التعبير عن اهدافه او قائد ليس بمكانه الصحيح، و بالتالي فالرؤية و التخطيط و الحوكمة مها ارتقت نوعيتها ستفقد حتما فاعليتها المرجوه كحصيلة لذلك.
و بالمحصلة فان على الموظف متى ما امكنه ذلك التوثق من نوع و تصنيف الوظيفة و ثقافة العمل السائدة داخل المنشأة المستهدفة.