دروس عظيمة من حياة قصيرة: د. محمد السعدون رحمه الله أنموذجا

فقت قبل البارحة على صدمة خبر وفاة د. محمد السعدون رحمه الله إثر حادث مروري بعد عامين من تخرجه طبيبًا. فبقيت وأنا بين صاحٍ ونائم ومصدوم وحالم أتذكر محمدأ. محمد ليس من أقربائي ومعرفتي به سطحية. وعرفته بحكم قربي من جامعة الفيصل وطلابها وتعاوني معها، فسمعت عن مبادرة “ابتسم أنت في نعمة” وعن طالب الطب الذي يقودها محمد السعدون. ومع معرفتي أكثر بها من خلال مشاركة أقاربي فيها ورعاية شركتنا لبعض أنشطتها احترمته وقدرته أكثر، حيث أقمنا مناسبة ترفيهية مشتركة في رمضان قبل ثلاث أعوام للأطفال المصابين بالسرطان. عرفت عن المبادرة أنه بدأها محمد عندما سمع قصة استوقفته. يحكي محمد نفسه أنه كان مضغوطًا في الدراسة ومتضايقًا يوما ما، فقرأ تغريدة على تويتر لفتاة مصرية اسمها فريدة قالت فيها:
“احمد ربك أن انت لسه فيك نفس وعايش وقدامك فرصة تقوم وتصلي لربنا من قلبك وتفضفض معاه غيرك بيتمنى يكون مكانك فأضحك أنت في نعمة”.
فريدة كانت فريدة فعلًا، كانت مبتلاه بالسرطان ولكنها مفرطة في الإيجابية. أثّر فيه أكثر أنها توفيت في نفس يوم التغريدة رحمها الله. يقول محمد رحمه الله: عندما نسمع أخبارًا سيئة نقول لاحول ولا قوة إلا بالله ونكمل حياتنا، ولكنني قررت أن أقوم بعمل. فنحن بحاجة من يقول لنا الدنيا لسة فيها خير وفيها أمل.أثرت فيه هذه الكلمات وبادر في تأسيس الفريق التطوعي تحت ظل جامعة الفيصل وأسماه “ابتسم أنت في نعمة” تيمنًا بخربشة وجه باسم رسمتها فريدة على يدها الموصولة بجرعة الدواء الكيماوي. أسس محمد المجموعة لتقديم دعم نفسي لمرضى السرطان لرفع كفاءتهم الذاتية (أي الاعتماد على النفس) وتخفيف الكآبة المتأتية من المرض وتحسين جودة حياتهم. فمن قيل له أنه من المتوقع أن يعيش سنة فحري أن يعيشها بسعادة وألا يموت كل يوم. كان يرمي لجعل مرضى السرطان أكثر تفاؤلًا، وكأن لسان حاله هو أن السرطان ضيف لا دفع له فأنت بيدك أن تستفيد منه أو لا تستفيد. أسس كيانًا يربط بين المتطوع والمريض، وقام بتوعية المجتمع بكيفية دعم هذه الفئة المنسية. والمهم أن الفائدة لم تطل المرضى وعائلاتهم فحسب وإنما المتطوعين أيضًا شعروا بسعادة العطاء ولمسوا تحسنًا في حياتهم.   قصة المبادرة يحكيها الفقيد في فيديو قصير  

دروس من حياته القصيرة

فقد المجتمع قائدًا نبغ مبكرًا وهو طالب ورحل مبكرًا وهو في بداية مشواره المهني كطبيب. والمجتمع حين يفقد شخصا في قدر محمد يفقد الكثير، مع أنه في حياته القصيرة قدم الكثير يتجاوز كامل فترة حياة لكثيرين. بعد أن بدأت استوعب صدمة الخبر خطرت لي دروس استلهمتها منه:  

هل تريد أن تكون نافعًا أم معروفًا؟

محمد رحمه الله اختار الأولى. حزّ في نفسي أن محمدًا في سعيه للإنجاز ومساعدة المرضى لم يعرفه الكثيرون ولَم يصبح معروفًا مثل المشاهير. مع أنه حري بأمثاله أن يكونوا هم المعروفين والمشهورين لأنهم هم الذين ينفعون الناس. كان بإمكانه أن يلتقط الصور مع الأطفال المرضى ويستغلها للشهرة في الوسائل الاجتماعية كما يفعل البعض، ولكن من عمل قريبًا منه كان يلمس منه حبا حقيقيا للأطفال المرضى وتعاطفا معهم كأنه أحد أفراد أسرتهم. مات في نفس يوم وفاته وفي نفس الظروف ممثل مشهور رحمه الله. وتناقل الآلاف الخبر وترحموا عليه. مع أنني أكاد أجزم أن ما قدمه محمد أنفع للمجتمع. قالت إحدى المريضات عن المبادرة أن كمية الحب التي رأتها جعلتها تحب العلاج الكيماوي! وتتذكرها والدة طفلة اختارها الله بعد معاناة قائلة:
“بمرور العام الاول على رحيل أميرتي الصغير أُحِب أن أشكر كل من وقف معنا و من ساعدنا و من قام بدعمنا أشكر من جعلها تبتسم و من خفف عنها ألمها. رغم رحيلها ستظل باقية في قلب من كل عرفها – شكرًا لكل طبيب – ممرضة- مساعدين – مبادرات أنتم تقومون بعمل رائع شكرًا.”
 

من التأثر إلى التفكر إلى العمل إلى النجاح

كم منا يسمع قصصًا ومواعظ لا تستوقفه، ومن منا عندما تأتيه الفكرة الخيرة يبادر بتنفيذها، بل ويبقى معها سنوات وإلى الممات. كما قال محمد رحمه الله من السهل أن نسمع بمصائب الناس ونتأثر ثم ننساها، وأحيانا نتجاوز ذلك إلى ان نتفكر في القصة، وقليلًا ما نتجاوز ذلك إلى التحرك والقيام بعمل ما، لنحظى بالتوفيق من الله وينجح هذا العمل.  الكل لديه مشاعر وأفكار ولكن النجاح يتطلب عملا مستداما.  

القيادة المجتمعية

كان بإمكان محمد أن يزور بعض المرضى وأن يحاول أن يخفف عنهم وحده ولكنه آثر أن يؤسس مبادرة وينظم عملًا فيتضاعف أثر جهده أضعافًا كبيرة. وهذا أساس العمل الخيري المؤسسي. كان محمدًا قائدا اجتماعيا وقدم نموذجا للقيادة الاجتماعية المبنية على الإقناع والتأثير لا الهيكل التنظيمي ولا التعاملات التجارية. وهو لم يخدم المرضى وأهليهم فحسب إنما خدم المتطوعين الذين وفر لهم مظلة وتنظيما ليعملوا مع المرضى، وتسبب في تحسن نفسياتهم، وكان جهده مفيدا للمستشفيات أيضًا.  

القدوة الحسنة

كم جدير أن يكون محمد هو القدوة بدلًا من نماذج أخرى تافهة تصدى للإعلام وتصدى لها الإعلام التقليدي والاجتماعي فقدمها. وأرجو أن يكون ممن قال عنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». وأتمنى أن ترعى جامعة الفيصل الشعلة التي أوقدها محمد، وأن يستمر زملاؤه وزميلاته من بعده في نشر هذا العمل العظيم، فهذا أقل وفاء لما غرسه، وأن يقتدي شبابنا بمحمد في بناء المبادرات الاجتماعية.

أنت في نعمة

وأخيرا وكما قالت فريدة رحمها الله: لديك الآن فرصة لتعيش ولتفرح ولتعمل ولتنجز، ولا يعرف أي منا متى يلحق بالراحلين، فاستغل هذه الفرصة على الوجه الأمثل ما دمت حيا وبصحتك. للأسف لم أعرف محمدا رحمه الله عن قرب ولكنني أعرف أنه رسم الابتسامة على وجوه الأطفال المرضى وحسّن حياتهم، وأكثر من سيفتقده بعد أهله هم أسرته الثانية: الأطفال المرضى وأهليهم والذين سلحهم لمحاربة السرطان بالفرح والبهجة. رحمك الله يا محمد وعوضنا عن فقدك…       ‏                  

الردود

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.