في تاريخ الأعمال، يمثل الاستقرار النسبي الاستثناء لا القاعدة. وبالنظر إلى أعمال اليوم، نرى أنها تجري في بيئات معقدة ونشطة ومتفاعلة، في عالم لا يمكن التنبؤ بأوضاعه. تسارعت الدورات الاقتصادية وبالتالي تزايَد ما ينتج عن ذلك من فرص ذهبية ناشئة وتهديدات بفشل مفاجئ مرتين أو ثلاث كل عقد من الزمن بدلاً من مرة أو مرتين في قرن واحد.
وفي بيئة الأعمال العربية، تجيد شريحة واسعة من المدراء العمل في فترات الاستقرار النسبي، ولكنهم يعانون من مخاطر فقدان وظائفهم عندما تتعرض السوق لتغيرات عاصفة مفاجئة لا يمكن التنبؤ أو التحكم بها كما حدث مؤخرًا في الجائحة.
لماذا ينجح بعض التنفيذيون رغم الاضطراب والقلق والفوضى بينما يفشل آخرون؟
قد يكون ذلك بسبب القدرة على العمل الفاعل في بيئة مضطربة، أي القدرة على الازدهار في الفوضى والحصول على عوائد مضاعفة رغم تواتر الأزمات وتقلب الاقتصادات.
معضلة التغيير
تتجلى (هذه القدرة أو المهارة) في زمن كورونا، المتغير الطارئ الذي دخل حياتنا. والتعامل مع هذا المتغير هو غالبًا تعامل مع معضلة وليست مشكلة.
والبداية هي أن نفرق بين المعضلة والمشكلة. فالمعضلة معقدة وغامضة ومحيرة ولا يوجد لها حل مباشر، بل عادة ما تفرض عليك الموازنة بين خيارين أو أكثر أحلاهم مر؛ لكل منها حسنات وسلبيات.
والاستجابة للمؤثرات والتغيرات الناتجة عنها في حياتنا معضلة مزمنة ومعقدة ومبهمة. صحيحٌ أن الجائحة سببت تغييرًا للجميع في طريقة التعليم والعمل، لكن تتفاوت وتتباين استجاباتنا وردود أفعالنا لهذا التغير.
وفي فترات الاضطرابات والأزمات، كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان ما عدا شيء واحد، وهو حريته في اتخاذ موقف محدد في ظروف معينة، لذا نكتب عما يبقى لنا دائما: حريتنا في اختيار كيفية الاستجابة لها.
إن الاقتصاد العالمي حاليًا في حالة يٌرثى لها، ووظائف التنفيذيين في خطر، لكننا هنا لا نتناول كيفية تدهور الأوضاع الاقتصادية، وإنما نهتم بالكيفية التي يتحول بها منظور وأداء التنفيذيين العرب من التكيف إلى الاستثمار في تدفق المتغيرات والفرص التي توفرها.
في مقابل المشكلة تتطلب المعضلة تفكيرًا مختلفًا، ربما كان رؤية وليس مجرد حل لمشكلة طارئة. فيبدأ الحل بتصور للتغيير بوصفه فرصة للتعلم والربحية، ومن ثمّ التحليل المنهجي للمتغيرات في فترات الجائحة باعتبارها فرصًا للابتكار الاجتماعي والاقتصادي، وهو خيار متاح للجميع.
منظور جديد للإدارة التنفيذية
لطالما اعتقدنا أن الإدارة الناجحة تدور حول الدفع قدمًا، مما يجعل الأمور تحدث بالتغلب على العقبات وتجاوز الحدود… مما يعني المزيد من التوتر والمقاومة، ولكن السماح لمتغيرات بيئة العمل أن تتكشف كما هي، والثقة في الفرص التي توفرها هذه المتغيرات يساعدنا على إعادة النظر لقيادة الأعمال في بيئة متغيرة تتمحور حول القدرة على ركوب موجات الفرص والتهديدات عند ظهورها.
والجائحة هي موجة مد، يمكنك ركوب هذه الموجة نحو الثروة أو المقاومة والتحرك باضطراب تحت وطأتها…
وبالنظر إلى الشركات تحت ضغط الجائحة، نجد أن بعض القطاعات انتعشت تلقائيًا بسبب ملاءمة منتجاتها لطبيعة الحياة في وقت الجائحة، مثل خدمات التوصيل والتسوق الالكتروني والألعاب الالكترونية بينما تأثرت قطاعات أخرى سلبًا مثل قطاعات السفر والتجزئة التقليدية والترفيه، ولكن الملفت أن هناك بعض الشركات التي نجحت في ظل انكماش قطاعها وهي الشركات التي خاطرت بالسباحة عكس التيار الذي سبح فيه منافسيها.
ففي ظل الظروف العاصفة التي مر بها العالم، أوجد مديري بعض الفنادق حلولاً مبتكرة لتحويل الأزمة التي جعلت فنادقهم خالية من النزلاء لشهور عدة إلى فرصة تدر عليهم الأرباح، مثل تقديم عروض للموظفين الذي يعملون عن بعد شملت غرف مجهزة بمكاتب واتصال سريع بالانترنت وأجواء هادئة مستغلين بذلك إما عدم وجود مساحة كافية في المنزل أو الملل من أجواءه والحاجة إلى التغيير. كما قاوم بعض أصحاب القرار في الأندية الصحية ركود مبيعاتهم في فترات الجائحة بحلول نذكر منها توفير التمارين الرياضية لمشتركيهم أونلاين ليحافظوا بذلك على عملائهم الحاليين باستمرار توفير خدماتهم لهم ويكسبون عملاء جدد تمامًا كما في العمل من النادي. ولجأ المديرون في بعض المطاعم حول العالم إلى طرق مبتكرة لبيع أصناف الطعام التي يقدمونها بطريقة تسمح لعملائهم إعدادها بنفس الوصفة والمكونات لتناولها في المنزل. كما نظر المسؤولون في بعض مواقع التسوق الإلكتروني إلى الجائحة على أنها فرصة من الممكن الاستفادة منها لتحقيق الأرباح وذلك بتخصيص قسم يوفر ملابس مناسبة للبيت مستغلين بذلك أشهر حظر التجول الطويلة والحملات المنادية بالتزام البيوت، وغيرها من الأمثلة الناجحة في مختلف أنحاء العالم لإدارة هذة الأزمة المفاجئة والخروج منها بمكاسب.
مهام جديدة للمدير التنفيذي
في ظل هذه التغييرات، نحتاج إلى إعادة تعريف المهام التنفيذية للمدير في بيئة عمل متغيرة باعتبار التعريف الجديد للقيادة، وهي:
- الحفاظ على حالة من التوقع والانتظار النشط لدورة اقتصادية من التهديدات والفرص الناشئة تبدأ كل عام إلى ثلاثة أعوام.
- رفع القدرة على رؤية ما هو آت باستخدام خرائط رصد ونماذج لقراءة المعطيات المتوفرة لبيئة العمل الخارجية والداخلية.
- الإدراك المبكر للفرص والتهديدات الناشئة بشكل متكرر ودوري.
- سرعة الاستجابة للمتغيرات واختبار ما تراه فرصة لك.
- المناورة عن طريق إعادة تقويم وتغيير الأولويات، ونفترض هنا أن الأولويات على النقيض من الجمل المبهمة للمهمة والرؤية والغاية والاستراتيجية، هي أكثر فاعلية، وقابلة للتنفيذ والقياس ومحددة بوقت معين.
- إدارة عملية التنفيذ على خلفية الأولويات الجديدة، والإبحار بمهارة مع كل الموجة نحو شواطئ جديدة.
والآن، ماذا عنك؟ كيف أثرت الجائحة على عملك؟ وكيف تعاملت مع هذا المتغير؟ شاركني قصتك في التعليقات أسفل الصفحة.
مقال مهم أستاذنا البدر،،
كوني أحد خريجي مدرسة القادة (مسك الخيرية) فأرى بأن أكثر ماتعاني منه المنظمات في ظل التحول الرقمي وتغير الاولويات بسبب جائحة. كورونا، هو بطء كثير من فرق العمل في التحول السريع واعادة ترتيب الاولويات والتخلي عن الاستباقية proactiveness
أتذكر قبل بداية الجائحة بأسابيع انني عرضت بإحدى الوزارات توجه مهم لحل مشكلة التدريب التعاوني لطلاب وطالبات الجامعات ليكون جزء منه مكثف عن بعد في ظل قلة الجهات التي تقدم التدريب الفعلي للمتدربين فقوبل مقترحي بالرفض وتم التعليق بأن الحل ابداعي زيادة عن اللزوم ونريد الاسلوب التقليدي في التدريب التعاوني المعتاد!!
بعد بدء الجائحة تم استدعائي ومطالبتي بتنفيذ الحل المقترح مسبقاً حيث أصبح ضرورة قصوى الآن، مما أدى لتدريب أكثر من ١٠ آلاف طالب وموظف بالتعاون مع أقوى منصات التعليم عن بعد العالمية وذلك خلال عام واحد فقط وتم قياس الاثر بردود أفعال مميزة من قبل الطلاب والمسؤولين بالجامعات وحتى الشركات حيث ساعد التدريب عن بعد بإضافة معلومات ومهارات تقنية وإدارية مهمة للعمل بالشركات وخصوصاً للموظف الجديد.
الخلاصة: أن التأخر في عمليات التحول الرقمي وممارسات الألعبة gamification بحجة أنها ترف وليست ضرورة قد يؤدي إلى كوارث في وقت الازمات مثل التي حدثت في جائحة كورونا مع بعض الجهات.
وأخيراً أرى أننا لازلنا نعاني من إصرار بعض المنظمات على الاتيان بأفكار جديدة وتنفيذ استثنائي من قبل أشخاص أخذوا فرصتهم بالسابق ومازالوا يأخذون فرصة غيرهم بالوقت الحالي مما يعيق سرعة التحول واحداث الأثر، حيث أمضى بعضهم أكثر من ١٠ سنوات بنفس الجهة دون تغيير يذكر !!
اتفق مع مجمل حديثك اخي ثنيان. التفكير الاستباقي والتواؤم السريع مهمة وهي مهارة تنقص الكثير منا. لعلي اركز على استراتيجية التعامل مع التغييرات العظمى مثل الجائحة في مقال قادم بإذن الله. شكرا لمرورك وتعليق.
ماتطرقت إليه أستاذ بدر هو تغيير كلي و شامل لمهام المدير التنفيذي و تطبيق لمفهوم الإدارة الحديثة التي أصبح تطبيقها ضرورة حتمية .. أذكر أنني في بداية الجائحة تحدثت كثيراً عن إدارة الأزمات و أن المدراء يجب ان يكونوا على مهارة و معرفة بذلك .. لكني مع الوقت أدركت بأن هناك ماهو أهم من إدارة الأزمات وهو ضرورة التكيف والاستجابة السريعة مع المتغيرات واعتقد ان كثيرا من قادة المنظمات لدينا يفتقدون لهذه المهارة نظراً لان اعمالهم تنحصر في تأدية الإجراءات الروتينية ..
نحن بحاجة إلى قادة لديهم الشغف بالعمل (كما ذكر سمو سيدي ولي العهد ) وان يكون لهم أهداف و ان يضعوا خطط إستراتيجية لتحقيق هذه الأهداف قادرة على التكيف مع أي طاريء او متغير وان نبتعد كل البعد عن الروتين الممل والبيروقراطيه في أداء العمل و أيضاً نريد أن نرى الحوكمة مطبقة في القطاع الحكومي كما هو في القطاع الخاص لضمان مزيد من الشفافية والنزاهة في إجراءاتها..
شكرا لك أستاذ بدر
First, I want to say that I re read the articles few times before posting the comments. I am fascinated by the choice of words in the article.
Particularly point number 6, the use of the word “execution” management is fundamental to successful management.
I noticed the article avoids using the word leaders and rightly so focuses on the management function. Further your use of “skills”, “adaptability”, “learning”, “managing execution”, “learning how to maneuver”.
I would argue that the six points are not new tasks per say but there priority now have surfaced to the top
My modest experience, have taught me during Covid that in addition the management team should: actively engage their people, to steady the ship and get everyone to understand the new direction
You also highlight problems versus dilemmas and chart a way towards addressing that. I propose that you look into and consider the thinking of Jacobi who often solved difficult problems by following the strategy of inversion: “man muss immer umkehren” (or loosely translated, “invert, always invert.”). [Jacobi] knew that it is in the nature of things that many hard problems are best solved when they are addressed backward
I look forward to see your thinking on how put this into practice, and what would be a framework to institutionalize the thinking into a system…
thank you for sharing your article
Sa’ed Gossous
Thanks Sa’ed for you comments. Thought provoking indeed. I might pick this up in a future post.
Pingback: 5 دروس لم يكن ليتعلمها القادة لولا جائحة كورونا - مدونة بدر بن حمود البدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دكتورنا الفاضل .. شرفت بالعمل معكم في شركة دور للضيافة وهذا وسام على صدري التعامل معكم …
مهام المدير التنفيذي الان اصبحت أسهل مما كان عليه سابقا لان هناك فرص عظيمة لاعادة هيكلة الشركات والتخلص من الارث الثقيل لبعض الشركات وهي فرصة عظيمة للظهور بشكل افضل واداء افضل لمن يقتنص الفرص في ظل الخمول الاقتصادي في ظل الجائحة حيث ان هناك فرص كبيرة للشركات اصحاب رؤس الاموال .. وفرص الاستحواذ على ما لم يكن هناك قدرة على الاستحواذ عليه سابقا فتخرج الشركة من الجائحة بقوة اكبر مما كانت عليه لكن كل ذلك معتمد على ثقوب رؤية تنفيذين الشركات .. ما اعنيه ان الوقت مناسب جدا للتغير الاداري الايجابي … تحياتي لشخصكم العظيم
لمست إدارة التغيير وإدارة المخاطر والاستراتيجية ولم تذكرهم صراحة يا دكتور (وهذه شطارة).
ان ما يعيب على التنفيذي (عربي أو غير ذلك) هو عدم توجيه الاهتمام إلى إدارة المخاطر.
هذا المقال عنونته للتنفيذيين العرب، لكن محتواه يتجاوز “العرق” ليرقى إلى “المنصب”، فالتنفيذي وكما يقول اهل الحجاز (عين في الشحمة وعين في اللحمة). فهو يريد تنفيذ الخطط والهروب من المخاطر.
هنا تكمن الأهمية البالغة للاستراتيجيين. نظرة الصقر تعطي شمولية الصورة التي يعرف بها التنفيذي كيف يوازن بين (البوصلة و ال stopwatch).
يعطيك العافية على هذا الطرح …. تأثير الجائحة على سير العمل بالقطاعات الحكومية أخذت أبعاد مختلفة لعل من رواسب هذه الجائحة هو إستمرار الإستفراد بالعمل لفئة معينة (من تم تكليفهم بالعمل خلال الحجر ) و غيابه عن شريحة أخرى …. توزيع المهام و إستغلال العقول تحتاج وقفة لكل قيادي في المنظمة .
نقطة أخرى هي إدارة الوقت و أثرها في تطوير القدرات، فالقيادي الفذ هو الذي يوجه أفراد المنظمة للإستغلال كمية الهدر في الوقت و أنه ثروة لو تم إستغلالها لتعظيم رأس المال البشري.
Pingback: 5 دروس لم يكن ليتعلمها القادة لولا جائحة كورونا - مدونة بدر بن حمود البدر