يوميات “الكورونا”

أنوار حمراء صاخبة بددت هدوء عشاء ليلة رمضانية، وقفت عند باب الدار سيارة إسعاف فيها ثلاثة… ترجلوا منها بحماس عليهم اللباس الأبيض العازل مع غطاء بلاستيكي للوجه. كنت أسمعهم بصعوبة بسبب حديثهم معي على بعد أمتار، وغطاء الوجه الذي يغطي تعابير المتحدث. وعندما رأيت وأنا واقف عند باب الشارع عمود المسحة الطويل في يد من تبدو أنها الممرضة عرفت أن هذا ما سيدخل إلى أعمق أنفي… وهذا ما حدث. كانت ثوان غير مريحة ولكن تحملتها وأنا أتساءل لماذا وضعت نفسي في هذا الموقف. كانت هذه أول مرة أسأل فيها نفسي هذا السؤال المتكرر.

بدأت الأعراض قبل التحليل بيومين بعد تمرين منزلي قاس على الدراجة إذ أحسست لأول مرة بماء الاستحمام ينزل على جسدي الساخن كأنه ثلج جاءتني على إثرها رجفة. ثم بتعب في اليوم التالي مع صداع بسيط وسخونة بالكاد أحس بها، عزوتها للتمرين مع لخبطة النوم في رمضان.

بعد يوم من التحليل وبعد ترقب قلق، دخلت على تطبيق للمستشفى كما طلبوا مني، كنت افتح الصفحات كأنني تلميذ أترقب نتيجتي بعد عام دراسي طويل من الجهد، وجدت في صفحة النتائج كلمة موجب وسالب في نفس الوقت، فافترضت الأفضل متمنيًا أن النتيجة سلبية. وفي حوالي الواحدة فجرًا وصلني اتصال من رقم جوال غريب. كان الترقب قد وصل أوجه، مع أنني أقنعت نفسي بأنني خال من المرض، ولكنني كنت مجرد بحاجة للتأكيد. كانت المفاجأة أن الشخص على الطرف الآخر عرف نفسه أنه من المستشفى وأن النتيجة إيجابية، كانت صدمة بسيطة بدأتها بعدم التصديق ثم التفكير في التبعات، بعدها تكررت علىّ اتصالات من ضمنها اتصال آلي من وزارة الصحة يذكر أن النتيجة إيجابية وأن أنتظر اتصالًا منهم.

واتصلت بي مندوبة من الوزارة ذكرت لي أن البرتوكول المتبع -لأنه ليست لدي أعراض شديدة- أنهم سيرسلون لي سيارة لنقلي إلى أحد فنادق العزل. سألتها عن إمكانية العزل المنزلي وذكرَتْ أنه ممكن إذا كان المكان منفصل بشكل تام، ولكن يجب التنسيق مع الفريق المكلف بالعزل حينما يتصلون. من حسن حظي (أو سوئه) لم يتصل أحد لأيام.

مر يومان على الخبر الصاعق أن تحليلي موجب، والشعور خلالها كان مزيجًا من التصديق والتكذيب ثم تساؤلات متعددة لا تجد لها إجابات عن ماذا سيحدث، وخصوصًا في جانب العزل القسري؛ إذ أن هذا الجانب هو أسوأ ما كنت أخشاه.

أعراض المرض كانت أهون ما فيه مقارنة مع الترقب للأسوأ بحسب الشحن النفسي الآتي من الصحافة ومن الشبكات الاجتماعية عن الأعراض والآثار وعدد الحالات والوفيات من جهة، ومترتبات العزل من جهة أخرى. وأسئلة ملحة: ماذا لو مررت العدوى للأقارب، وماذا لو مرروا العدوى لآخرين، هل أكون بؤرة للإصابات، والسؤال المصيري: ماذا لو لم أنج منها؟

من وقتها أخبرت أهل بيتي وطلبت تحليلًا لهم جميعًا للتأكد من حالتهم. وعزلت نفسي في ملحق في المنزل. واتصلت بكل من كنت معهم في الأيام السابقة، وعددهم قليل إذ أني لم أحضر إلا اجتماعًا واحدًا مع المحافظة على الكمامات والتباعد. ونصحتهم بالفحص احتياطًا. ولاحقًا عرفت ولله الحمد أنهم جميعًا كانت نتائجهم سلبية.

العزل المنزلي لم يكن سهلا. بعد ثلاث ليال كان التحدي هو العزلة بالرغم من القرب من أهل البيت، أزعجني أنني كنت كلما أهم بالاقتراب منهم كنت أتذكر أهمية البعد. كان شعوري وأنا في البيت كالشبح كنت موجودًا بحواسي وغير موجود بذاتي. كنت حين أصادف أحدهم نتباعد. كنت في المنزل أسمع أصواتهم ولكن كأنني غير موجود. لم أكن أجد أحدًا ليتحدث معي. كنت أتواصل معهم هاتفيا كما أتواصل مع بقية العالم الخارجي.

العزل المنزلي لدي أفضل من العزل في فندق أو مستشفى، ولكنه في وقتها لم يبدوا خيارا محببًا لدى الجهات المختصة، فبعد أيام بدأت تلاحقني الاتصالات من المستشفى، حيث طلبوا أن أنوم عندهم لمدة عشرة ايام حسب البروتوكول المتبع. وأنه لا مفر من ذلك. ذكرت لهم تواصلي مع الوزارة وخيارهم لي بالعزل المنزلي، ولكن لم يكن ليستمعوا لي بل هددوا بأدب بالتصعيد للجهات المختصة. وقررت ألا أرد على اتصالاتهم المتكررة. فلماذا أشغل لهم غرفة في المستشفى وأنا ليست لدي أعراض.

أيامها كان عدد الإصابات اليومية للدولة لم يتعد الألفين، وكانت تأتيني اتصالات متكررة تعبت من الرد عليها، إذ كانت اتصالات الوزارة متناقضة بخصوص العزل المنزلي، منها ما كان يسمح إذا كان العزل كاملًا في المنزل ومنها ما يتطلب الانتقال. وفي ليلة بعد أسبوع من التحليل جاءني اتصال متكرر من رقم أرضي ثابت فأوجست منه خيفة. وتبين أن الرقم المجهول، كان هو مركز الشرطة والذي أبلغته الوزارة أنها تبحث عني مع أنني كنت في على تواصل معهم. اقتنعوا مباشرة لحسن الحظ بأنني على تواصل مع الوزارة.

حسب ما أخبروني عن البرتوكول المتبع، فإن فترة الحجر المنزلي للمصاب هي عشرة أيام منذ نتيجة الاختبار، وكان يعني ذلك أنني أخرج من العزل قبل العيد. واستمرت الاتصالات التي تتساءل أين أنا إلى اليوم قبل الأخير من العزل. كان هناك خللًا واضحًا في التنسيق لديهم قد يحله استخدام التطبيق الجديد.

بعد اليوم الأول استمرت الأعراض ولكن خفّت حدتها والتي كانت هي أقل من أعراض الانفلونزا الموسمية الشديدة. كانت الأعراض خفيفة لدرجة أنه في الفترة كلها لم اضطر إلى تناول مسكن، لكن متفاوتة، فيوم فيه سعال ويوم عطاس، حينما شارفت فترة العزل على الانتهاء، وفي اليوم التاسع، صحوت فيه وأنا أحس بألم جديد بسيط في الحلق ثم صداع خفيف. أي ألم ولو طفيف تهمله في حياتك العادية، يستدعى الآن تفكيرا: هل هو تراجع أم برد خفيف غير مرتبط؟ أحس كأنه التهاب في الجيوب الأنفية. هل من الممكن أن تصاب بمرض آخر مع الكورونا أم أنها متشبثة بأسنانها؟ الجميل أنها بمرور أسبوعين اختفت كافة الأعراض، ولكن بقي التعب وتدهور اللياقة البدنية.

 أتوق إلى تمرين على الدراجة ولكن أجلت ذلك بسبب الحرص على عدم التأثير على المناعة. أحسست تلك الأيام بشعور السجين مع أنني في منزلي، شعور من هو تحت الإقامة الجبرية. ومع أن الوقت قصير ومحدد فإنه شعور ثقيل، مع أنني كنت أقوم أتسلى بتسيير أعمالي ولم أترك يوما من العمل (عن بعد) …

كنت أقف عند النافذة أرقب الشارع الخالي، أنظر إلى الشجر يحركه الريح، أرى العصفور ينتقل من شجرة إلى أخرى ثم يتوارى في الأفق، أتابع القطط تتبادل الأدوار وكأنهم ممثلين في فيلم درامي صامت قديم، وأنظر إلى الظل وهو يطول ليختفي قبيل المغيب منتهيًا بآذان المغرب ووقت الإفطار.

تجربة هذا المرض مع أن أعراضه عندي لم تتجاوز أعراض البرد ولله الحمد كانت ذات أبعاد كبيرة، فيها إحراج حيث اضطررت للاتصال بكل من سبق قابلته لأشرح له الموقف وأنصحه بالفحص هو وأسرته، وفيها ترقب للأسوأ في الخوف من إصابة العائلة والخوف من الأعراض التي كانت تضخم، وفيها شعور مضاعف من فقد الحرية للحجر العام ويفاقمه العزل المرضي.

في المقابل كان فيها فرصة للتذكر أن الصحة غالية، وأن الإنسان معرض في أي وقت لفقدها، وتوقيتها مع العشر الأواخر من رمضان أضفى عليها جوا إضافيًّا من الروحانية. أيضًا وجدت العمل والتواصل الاجتماعي عن بعد كان نعمة. فمتعة الإنجاز والتواصل ساعدت في تخفيف المشاعر السلبية.

إلى يومنا هذا لم أعرف كيف وصلتني العدوى، حيث كنت حريصًا على التعقيم والتباعد وغسل اليدين، ولم أتعرض إلى أي موقف محدد من الممكن أن ينتج عنه عدوى، ولم أقابل أي شخص أعرف أنه مصاب بالمرض. ومن المرجح ألا أعرف أبدًا.

كانت رحلة قصيرة بالأيام طويلة بالأحداث والترقب، بدءًا بالأعراض، ثم أخذ العينة، وانتظار النتيجة، ثم استيعاب النتيجة وتبعاتها، تبعها الاتصالات المتخبطة، والتصعيد فيها، كل ذلك أثناء العزلة، ثم ترقب الانفراج، مع التخوف من الانتكاس مع كل أعراض جديدة.

وفي نهايتها حمدت الله على نعمة الشفاء السريع والأعراض الطفيفة حيث أن هناك من عانى منها أكثر… فقد كان الضغط النفسي أسوأ من الأعراض. ومن تجارب مثل هذه نغير منظورنا للحياة كهبات ونعم مسلم بها، أقلها نعمة الخروج من المنزل، وأكبرها نعمة الصحة والعافية.

الردود

  1. Saag :

    سرد جميل أخي بدر
    والحمدلله على السلامة
    ينتابني شعور من الفصول تجاه كيفية انتقال العدوى لكم

  2. رائد الأحمدي :

    الحمد لله على سلامتك.
    اسلوب كتابة بديع، استمتعت بالقراءة
    شكرا لمشاركتك 🙏🏻🌹

  3. Tash Matash :

    الحمدالله على سلامتك دكتور بدر. يعني اللي يشوفك تشق الجبال بالدراجه يقول الكورونا يجي ياخذ كورس عندك. ماعليك خوف … اسد

  4. Haitham Al-Sheeshany :

    الحمد لله على السلامة

    الصحة تاج.. بالفعل تاج لا نراه إلا في حالات معينة وأظن التاج كان برّاقًا جدًا في هكذا قصة

    عافاك الله وحماك

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.