في ظل تقبل التغيير: لماذا يصعب علينا تقبل العمل عن بعد؟

خلال العامين الماضيين، تغيرت ثقافة العمل بشكل كبير وأصبح الموظفون حول العالم يعيدون ترتيب أولوياتهم بما يضمن التوازن بين حياتهم الشخصية والمهنية. وتوجهت سوق العمل نحو خلق بيئات أكثر مرونة واتزانًا. وواجهت العديد من المنشآت تحدٍ جديد وهو “نمط العمل الهجين”. كما وجدنا أنفسنا أمام عددًا من الأسئلة الملحة حول أفضل الطرق لممارسة الأعمال.

هل الحضور للمكتب هو النمط الصحي للعمل؟

أم أن حرية العمل من أي مكان هي ما يضمن إنتاجية الموظفين وإبداعهم؟

 أم أن هناك نمط هجين يدمج بين الأسلوبين لخلق ثقافة عمل مرنة؟

كأي رئيس تنفيذي استوقفتني هذه الأسئلة خاصةً أن توفير نماذج عمل مرنة أصبح مطلبًا لا يمكن لأي قائد تجاهله. فالعمل عن بعد بات خيارًا مطروحًا، ورغبة الموظفين حول العالم في الانضمام لبيئات مرنة تزايدت بشكل ملحوظ.

جرب الموظفون ممارسة أعمالهم عن بعد، وأثبتوا قدرتهم على إنجاز المهام باحترافية وكفاءة عالية. ففي مطلع عام 2020 اضطر الجميع للعمل من المنزل والتكيف معه. كانت تجربة قاسية على الكثيرين وأنا واحدًا منهم، ولكنها كشفت عن بدائل جديدة جعلتنا نعيد صياغة بعض المفاهيم عن العمل وآلياته.

بين المعارضة والتأييد

لم يتردد عمالقة السيليكون فالي – مثل شركة مايكروسوفت وتويتر- للحظة في التحول إلى النمط الهجين. فالرئيس التنفيذي لشركة تويتر باراغ اغراوال صرح في مطلع العام الحالي أن المكان الذي يحفز إنتاجية الموظف وإبداعه هو مكان عمله. بما في ذلك العمل من المنزل إلى الأبد. تتبع شركة مايكروسوفت هذا النهج أيضًا، حيث أعطت موظفيها الصلاحية للعمل عن بعد بما يعادل 50% من ساعات عملهم. ففي بحثها الذي شمل 31,000 موظفًا من 30 دولةً حول العالم، خلصت مايكروسوفت إلى أن الغالبية العظمى من الموظفين يرغبون في خيارات عمل أكثر مرونة. كما وجد الاستطلاع أن 53٪ من المشاركين يميلون الآن إلى إعطاء الأولوية لصحتهم ورفاهيتهم.

في المقابل، يعارض بعض الرؤساء التنفيذيين مثل إيلون مسك فكرة العمل عن بعد. فهو يرى أن ظرف الوباء خدع الكثيرين بفكرة عدم الحاجة للعمل من المكتب.

لماذا نتردد في تفعيل النمط الهجين؟

أثبتت المملكة العربية السعودية كدولة جاهزيتها للعمل عن بعد من حيث التقدم الرقمي وسرعة الإنترنت وكفاءته، وإتاحة منصات حكومية معتمدة للعمل الافتراضي. كما أثبتت العديد من المنشآت السعودية كفاءتها عند تفعيل هذا النمط، إلا أن البعض لا يزال مترددًا وأعتقد أن الأسباب تعود إلى:

1. التعود على العمل من المكتب

سيتطلب تقبل العمل عن بعد وقتًا طويلًا لأنه جاء بعد اعتياد الموظفين على الذهاب للمكتب لسنوات طويلة. حتى الآن توجد بعض المخاوف من التحول للنمط الجديد. فتواجد الفريق تحت سقف واحد يولد شعورًا بالأمان. فالمدراء يشعرون بالارتياح لقربهم من موظفيهم ولعدم حاجتهم لمضاعفة الجهد في متابعتهم، كما أن الموظف يشعر بقدرته على إظهار التزامه من المكتب. ناهيك عن أن التواجد في المكتب مع الفريق يسهل التواصل ويجعله أكثر فاعلية ويعزز روح الفريق.

2. قصور التقنية في تقديم تجربة إنسانية متكاملة للمستخدم

لم تكن الجائحة هي البداية، فمنذ وقت بعيد وكُبريات الشركات تفكر جديًا في تقديم حلول تقنية ذكية. أتذكر أثناء عملي في شركة سيسكو -في عام 2009 تحديدًا- أطلقنا آنذاك تقنية Telepresence لعقد الاجتماعات من مواقع متباعدة، بواسطة أنظمة ذكية تسمح بالتقاط ونقل حركات الجسم، وتعابير الوجه، ولمحات العين، ونبرات الصوت للمشاركين في الاجتماع من خلال تقنيات متطورة. إلا أن هذه التقنية واجهت العديد من التحديات التي حدت من انتشارها لعل أبرزها ارتفاع تكلفتها.

ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ظهرت الكثير من التطبيقات التي سهلت العمل عن بعد، ولكنها للأسف ما زالت غير قادرة على تقديم تجربة إنسانية كافية لتلبية احتياجات الموظفين النفسية والعاطفية مثل التي نختبرها في المكاتب. الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل إريك شميدت يرى أن من إيجابيات عملنا من المكتب تعزيز التواصل، فالبشر كائنات اجتماعية والتكنولوجيا لن تحل محل العلاقات الشخصية التي تبنى داخل الشركة.

جميعنا مررنا بفترات عملنا فيها عن بعد، وأمضينا ساعات متواصلة أمام شاشات الأجهزة متنقلين بين اجتماع وآخر عن طريق برنامج زووم أو مايكروسوفت تيمز أو غيرها من التقنيات. قد تكون كثرة الاجتماعات عن بعد سببًا للشعور بالإرهاق، نظرًا للمجهود الإضافي الذي نبذله في التركيز ومحاولة تجنب المشتتات من حولنا. والتأكد باستمرار من أن الشخص ينظر إلينا ويسمعنا ويتفاعل معنا.

3. كثرة المشتتات من حولنا في المنزل

قد يصعب على الكثير منا التركيز أثناء عملنا من المنزل، بسبب تواجدنا في بيئتنا المألوفة. والبعض يجد صعوبة في الفصل بين حياته الشخصية والعملية. فقد وجدت دراسة مايكروسوفت أنه على الرغم من أن 80٪ من الموظفين أثبتوا أنهم قادرين على تقديم مستوياتٍ إنتاجية عالية منذ التحول للعمل عن بُعد أو النمط الهجين، إلا أن 54٪ من القادة يخشى من تأثر الإنتاجية سلبًا بعد التحول.

كما يفرض وجودنا في بيئتنا المألوفة تحديًا يتمثل في سؤال مفاده: متى نعود للمنزل إذا كنا نعمل من المنزل؟ ونعني هنا التحدي الذي نواجهه في إعادة توجيه تركيزنا، ومشاعرنا لأفراد عائلتنا والتفاعل معهم. والرجوع لروتيننا اليومي المعتاد وكأننا عدنا للتو إلى المنزل بعد يوم عمل في المكتب. 

هل يجب تفعيل النمط الهجين؟

للنمط الهجين مميزاتٍ عدة لمسناها في أثناء الجائحة، منها: زيادة الإنتاجية، والتخفيف من حدة الروتين اليومي، وزيادة معدل الرضا الوظيفي، وتقليل الزحام المسبب للضغط النفسي والتلوث البيئي. كما ساعد العمل عن بعد على تقبل إجراء الاجتماعات. وخصوصًا اجتماعات مجالس الإدارة ولجانها عن بعد مما أضاف مرونةً لمثل هذه الاجتماعات افتقدناها في السابق. ولكن قبل التفكير بتفعيل النمط الهجين، لابد من التأكد من جاهزية المنظمة واستعدادها التام للتحول إلى هذا النمط.

فالاستعداد يكون بتهيئة ثقافة المكان والموظفين للعمل عن بعد، عن طريق:

  • وضع سياسة للعمل عن بعد لتحديد ما يتعلق بساعات العمل، ومتابعة الأداء، وخصوصية البيانات، وحقوق الموظفين.
  • التأكد من مقدرة الفرق على التواصل بشكل فعال في البيئات الافتراضية.
  • توفير منصات أعمال مشتركة، وتسهيل الوصول إلى موارد المنشأة.
  • تفعيل النمط الهجين تدريجيًا ابتداءً بيوم واحد في الأسبوع وقياس أداء الموظفين وإنتاجيتهم خلال هذا اليوم.

لا يمكنك إرسال موظفيك للعمل من منازلهم بدون توفير قنوات تساعدهم على إتمام مهاهم كما لو كانوا في مكاتبهم.  إذا كانت المنشأة تعتمد بشكل كبير على التواصل الإنساني المباشر في المحادثات والاجتماعات لإنجاز المهام، قد تواجه صعوبات كبيرة عند التحول فجأة للنمط الهجين. من المفيد أن تبدأ المنشأة بالتحول التدريجي، بأن تفعل أساليب وسياسات مرنة بما يتناسب مع جاهزيتها. ثم تغيير ثقافتها وتجهيز المنشأة تقنيًا عن طريق مبادرات التحول الرقمي، حتى تتمكن من تفعيل النمط الهجين بنجاح.

رغم سلبيات الجائحة، إلا أنها قدمت لنا فرصة عظيمة لإعادة النظر في آليات العمل. والتفكير جديًا بخلق بيئات توازن بين الوظيفة والحياة. فثقافة العمل الجديدة لم تعد تتسق مع الأنظمة الصارمة وأساليب عالم ما قبل الجائحة. نحن الآن في مرحلة جديدة تتطلب بيئات مرنة متكيفة، تضمن أن تكون حياتنا العملية أكثر إنتاجية ًواتزانًا.

الردود

  1. أبوحسام :

    اعتقد بعد وضع اتفاق يوضح طريقة العمل الهجين و تفاصيله ستكون الانتاجية في ارتفاع … شكرا لك موضوع قد يطبق في الازمات و ادارة المخاطر للموسسات و الجهات مستقبلاً.

  2. سليمان اباالخيل :

    مقالة اكثر من رائعة. ولدي قناعة اذا كان اداء الموظف لا يرتبط بمكتب ولا بجمهور ولا بفريق عمل فأطلق له العنان وعامله بالانتاج وضع مؤشر الاداء بشكل صحيح.

  3. Pingback: لا تقلق فتحترق!  7 نصائح فعالة لتجنب الاحتراق الوظيفي  - مدونة بدر بن حمود البدر

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.